نبدأ بتفاصيل الخبر 👈👈👈 وقف عبدالكريم صاحب أحد المطاعم الفاخرة
وسط صالة الطعام شبه الفارغة، في توقيت عرف أنه وقت الذروة في
الأسابيع والشهور الماضية، كان هذا الحال قد بدأ تدريجيا منذ بضعة
أيام والزبائن تنحسر عن المطعم بلا سبب واضح، فهو لم يقصر في
جودة الطعام أو يزيد الأسعار.
خرج عبدالكريم إلى الشارع الذي كان يزدحم بالمارة في هذا الحي
الراقي التجارى، يتلفت عن سبب واضح لما يحدث فبالرغم من انه
المطعم الوحيد الذي يقدم أنواع مختلفة عن باقي المطاعم حوله،
وهو ما كان يميزه عن غيره، بالإضافة إلى شهرته في حفاوة أستقبال
العملاء، وسرعة تلبية رغباتهم جعلته مقصداً أساسياً للزبائن من كل أطيافه.
عاد عبدالكريم إلى مكتبه الصغير خلف المطعم يفكر بالقيام بأي إجراء
يجذب به الزبائن مرة أخرى، فهل أقدم خصومات أم وجبات بأسعار مخفضة،
لا بل سوف أقدم وجبات مجانية للمجموعات والعائلات.
توقف عبدالكريم فجأة عن التفكير مع تذكر الوجبات المجانية،
لينادي على شيف المطعم الذي حضر سريعاً ليسأله.
“هل حضرت أم أمل اليوم لتأخذ الطعام؟”
مط الشيف شفتيه بلا مبالاة ورد.
“لا لم تأتي، كما لم تأتي في الأيام السابقة أيضاً”
أندهش عبدالكريم من إجابة الشيف ليسأله مرة أخرى.
“منذ متى؟”
“منذ عدة أيام حين كان المطعم مزدحم وأقبلت لتأخذ الطعام
كعادتها، ولكنك حينها صرخت في وجهها ونهرتها بأنه ليس
هذا الوقت المناسب للشحاته”
بهت وجه عبدالكريم وهو يتذكر تلك الواقعة التي قد نساها تماماً،
ولم يهتم منذ حينها أن يسأل عن تلك السيدة المسنة التي ترملت
وهي في الأربعين من عمرها بأطفالها الثلاث، لتخرج وتعمل عدة
أعمال شاقة متفرقة حتى أعياها المرض وأصبحت لا تستطيع العمل كالسابق
وأستكفت بجلستها لتبيع الخضروات في السوق لتتكسب جنيهات
قليلة لا تكاد تسد رمق أطفالها، وفي أحد الأيام مر بها عبدالكريم
لتدعوه أن يشتري منها بعض الخضروات، ليجلس أمامها بعد أن
جذبته طيبة وجهها الصبوح المبتسم برغم الألام التي تشعر بها، وتحكي له قصتها.
ومنذ ذلك الحين طلب منها أن تمر يومياً على مطعمه ليعطيها ما لذ
وطاب لها ولأولادها، ليظل هكذا لشهور طويلة دون أن تنقطع، تذكر
عبدالكريم أنه منذ ذلك الوقت وأعمال المطعم في رواج ورخاء، تذكر
دعواتها الصادقة وعيونها الشاكرة وهي تأخذ الطعام مغلفاً كما
يتعامل مع الزبائن بالضبط.
خرج عبدالكريم من مطعمه قاصداً المكان الذي كانت تجلس فيه
في السوق، ليجد المكان مشغولاً بسيدة أخرى وليس لأم أمل
أي أثر في السوق، ليقف شارداً يفكر كيف يجدها وهو لا يعلم
أين تسكن، لينتبه على صوت إحدى البائعات تطلب منه أن
يشتري منها، ليقترب في هدوء وعلى وجهه إبتسامة بسيطة ويسألها.
“هل تعرفين أم أمل التي كانت تبيع الخضروات هنا في السوق؟”
ردت السيدة وهي ترفع يديها داعية.
“اللهم خفف عنها وأشفها يا رب، أنها حبيبتي وحبيبة الجميع هنا”
فزع عبدالكريم من كلماتها ليسألها بذعر واضح.
“ماذا حدث لها؟”
لترد السيدة بعد أن زفرت الهواء بقوة.
“لقد عادت إلى منزلها في أحد الليالي ويبدوا أنها كانت
خاوية اليدين لا تحمل عشاءً لأولادها كما أعتادت، لتصاب
بحزن شديد أفقدها وعيها وسقطت في الشارع
لولا أن أنقذها بعض الناس الطيبين”
كاد قلب عبدالكريم أن ينخلع من مكانه فهو يعرف أنه السبب
الرئيسي فيما حدث، ليعود ويسأل السيدة والكلمات بالكاد تخرج من فمه.
“هل تعرفين أين تسكن؟”
ردت السيدة بالإيجاب ووصفت له مكان المنزل ليعود سريعاً
إلى المطعم ويأمر الشيف بتجهيز طلب محترم من أشهى
مأكولات المطعم ليحمله ويذهب إلى ذلك العنوان.
لم تمر دقائق حتى كان عبد الكريم يقف أمام بيت أم أمل
القديم في ذلك الحي العشوائي وهو يسمع دقات قلبه
تكاد تحطم ضلوعه، قبل أن يطرق الباب ويسمع صوت قتاة
تسأل من قبل أن يجيبها.
“أنا عبدالكريم صاحب مطعم …”
لم يكمل عبدالكريم كلماته لينفتح الباب ويلاقى تلك الفتاة
التي بعمر إبنته وعلى وجهها أبتسامة صافية تشبه أمها
وهي ترحب به وتدعوه للدخول.
كان ظن عبد الكريم وهو يدلف من الباب أنه سيدخل أولاً إلى الصالة
والتي منها إلى غرف النوم وهكذا، ولم يعلم أن بيت أم أمل هو غرفة
واحدة بها كل شئ، ليفاجئ على يساره بفراش وعليه تجلس أم أمل
تتطلع في عينه بنظرات ملأتها لوم وعتاب، وصبيين يجلسون بجوارها
وعيونهم معلقة باللفافة التي يحملها بعد ان ملأت روائح الطعام الغرفة.
لم يعرف من أين يبدأ وكيف يعتذر وهل هناك كلمات تداوي جرح كلمات،
أقترب منها بخطوات ثقيلة حتى شعرت بمعاناته وحن قلبها الرحيم
فأبتسمت وأشارت له ليجلس على طرف الفراش، فجلس وتطلع
في وجهها الذي أشرق بإبتسامة رضا وترحيب أستقبلتها بإستحياء،
قبل أن يبادرها.
“أردت أن أتناول طعامي معكم، فهل تسمحين لي أن نتشارك الطعام؟”
هربت دمعة من مقلتها كادت تحرق وجدانه الذي يئن من الإحساس بالذنب، لترد عنها إبنتها.
“أمي لا تتكلم منذ عدة أيام، ولا تكف عن البكاء”
أحس بغصة في صدره قبل أن يحاول تصنع المرح وهو يفتح لفافات الطعام ويهتف.
“دعونا إذاً نطعمها ونحاول أن نسعدها”
وبدأوا في تناول الطعام وهو يحاول نشر البهجة في جنبات الغرفة الحزينة،
ليبدأ أطفالها تبادل الضحكات وأمل تطعم أمها التي أبتسمت في عدة
مناسبات قليلة، وحين جاء وقت الأنصراف وقف أمام أم أمل يستجديها.
“سيدتي، لا أملك أن أعيد كلمة خرجت من لساني دون وعي مني،
ولكني أملك الشجاعة للأعتراف بالخطأ وطلب المغفرة، وأعرف أنك
كبيرة القلب لن تبخلي علي بالصفح”
أشاحت بوجهها عنه وعادت تبكي بكاء صامت، ليقف لثواني طويلة منتظر
عفوها دون جدوى، ليطرق رأسه حزناً ويلتفت ناحية الباب مغادراً، قبل
أن يتوقف فجأة على صوتها وهي تنطق بضعف.
“أشكرك يا أستاذ عبدالكريم، ربنا يسعدك ويسترك وينور طريقك”
كلمات بسيطة كانت بالدنيا وما فيها، السعادة والستر والهداية، فهو لن
يحتاج أكثر من ذلك، غادرهم وهو مفعم بالبهجة ووعدهم أنه سوف يعودهم
حتى تتعافى أمهم بعد أن أعطاهم من مال الله قدراً، وفي الطريق
عرج مرة أخرى على المطعم وما أن وصل هناك حتى هاله ما وجد.
زحام شديد بصالة الطعام وزبائن على قائمة الإنتظار والعاملين كخلية
النحل يكادوا لا يستطيعون تلبية كافة الطلبات، أندفع إلى داخل المطعم
وما أن قابل الشيف حتى حاول أن يستفسر منه عن سبب ما حدث فرد عليه.
“هل تعرف سعيد سرور؟”
“نعم إنه أشهر ناقد طعام في البلد”